
تعالوا نحلل مع بعضنا هذه الصورة ... رجل عارِ كما ولدته أمه فى وضح النهار , يحاول أن يحمم حماره فى ماء النيل , على جانب أحد الطرق بالمدينة . إلى هنا .. لا شئ يزعجنى ... هل إنزعجت أنت ؟ .. ربما كُنتَ من المهتمين بشؤن البيئة و يزعجك تلوث ماء النيل , فيمكنك أن تتابع أحد برامج القناة الثالثة فهم منزعجون أيضا
أو ربما يؤذيك منظر الرجل العارى , فسأعرف حينها أنك لم تر من قبل "غطاس البلدية" و هو يمارس عمله , خارجا من أحد بالوعات القاهرة , بلبوصاً أيضاً
أشرح لكم لماذا لم أنزعج :-
لو تفحصت تلك الصورة - تأملها - لوجدتها تعبر ببلاغة غير مسبوقة , عن حالة فريدة من التوازن والتوازى والإتساق و الجنون
الرجل عارى فى الطريق يحمم حماره فى ماء النيل , و لكن الحياة تسير بمنتهى الطبيعية على جانب الطريق , فلا أحد يلتفت أو يهتم
اللهم عين مبدعة لمصوّر , وجدت فى الأمر غرابة تستحق التسجيل
أنت و أنا أيضا تعودنا أن نستوعب كل المتناقضات تسير متجاورة فى كل مكان وفى كل لحظة
الجمال يسير بحذا القُبح , العشوائية بجانب الرقي , سيارة ثمنها أكثر من مليون جنيه تقف فى إشارة مرور واحدة بجانب عربة كارو يجرها حمار مسكين , رجل يركب الدراجة وسط الزحام و موسيقى السيرك فى الخلفية , حاملا مشنّة الخبز فوق رأسه , يسندها بيد , و يدخن سيجارة باليد الأخرى .. ويسير .. منتقبة و شاب ملتح بجلباب قصير .. و فتاة ترتدى ستوماك و شاب ضارب الجِل و البنطلون اللو ويست ,
الكل يسير ...الكل يتجاور...الكل لا يلتفت للكل ولا يصطدم و لكن يسير
أنت و أنا إعتدنا ذلك الجنون ... و لهذا أنا لم أنزعج
****************************
على مدار عدة أشهر , تابعتُ بصبر و متعة و شغف , المئات من المدونات و المدونين , ولكم أذهلنى زخم الأفكار و الوعى و الموهبة لدى معظم من صادفتهم , حتى من أختلف معهم فكرياً . ولكن الشيئ الذى لاحظتُه , أن الكل تجمعه حالة عامة من الألم و القرف و فقدان الأمل
طيّب ... أريد الآن أحد المتطوعين منكم .. ربما فتاة رقيقة مُفعمة بالحماس و الإحباط معاً . أو شابُ واعدُ مليئ بالأحلام و اليأس ... أريدكم أن تقتربوا من ذلك الرجل العارى فى الصورة - و أنا مش مسئول طبعاً عن اللى هيحصل - وتلقون عليه بعض من هذه الأسئلة
هل أنت موافق على التعديلات الدستورية ؟
هل ترفض التوريث ؟
هل تشعر بالفساد الذى نعيش فيه ؟
ما هو تقييمك لفترة حكم الرئيس مبارك ؟
هل نعيش ديمقراطية مزيفة من وجهة نظرك ؟
هل تنتمى إلى أحد الأحزاب السياسية الموجودة بمصر الآن ؟
هل يجب فصل العقيدة / الدين عن الهوية ؟
من هي القوة السياسية المؤثرة في الشارع الآن ؟
هل سيصبح جمال مبارك وريثاً للحكم بعد أبيه ؟
هل فلسطين عربية أم إسلامية ؟
هل توافق على السلام مع إسرائيل ؟
هل سمعت عن كريم عامر ؟
أتخيل .. أنه مهما كانت النتائج الهزلية التي ستحصلون عليها ، فلا تستهينوا بها ، ولا تنسوا أنه مجرد رجلُ عاري في وضح النهار ، يحمم حماره في مياة النهر على جانب أحد الطرق بالمدينة
*********************
لم أستطع أن أحدد على وجه اليقين ، في أي حقبة تاريخية ، وتحت أية ظروف ، تحولت غالبية الشعب المصري إلى إعتناق ذلك النوع من الجهل الإختياري .. نظلم ثورة يوليو لو حمّلناها وحدها مسئولية ذلك ، فتلك التحولات قد تجذّرت لأبعد من ذلك بمئات السنين
الجهل .. يعني عدم العلم بالشيئ ، الجهل الإختياري .. يعني عدم الإكتراث بالعلم بالشيئ
وَصَلتُ .. إلى مرّبط الفرس ، وإلى عدة نتائج
*
نعم النظام الحاكم هو نظام الأغلبية ، وهو الأكثر شعبية وإتساقاً مع نفسه ، لأنه يعرف من يحكُم ومن يخاطِب ، وكيف يحكُم وكيف يخاطِب
*
نعم النظام الحاكم مُستمر ، وسوف يستمر .. لأنه يمتلك لُغة تفاهم ، يتعامل بها مع رجل الصورة العاري ، لُغة لا نفهمها نحن أصحاب الوعي والمعرفة
*
نعم نتيجة الإستفتاء على التعديلات الدستورية ، ونتيجة أي إستفتاء سابق أو قادم ، هي نتيجة سليمة لا تشوبها شائبة ، فهي تُعبر عن النسبة الحقيقية للأغلبية التي قامت بفعل " الغياب " وليس فعل المقاطعة
*
لا توجد قوى سياسية أو شعبية أو إجتماعية ، من شأنها أن تهزم ذلك الجنون المتوازن والمتماسك ، والذي يسع شعباً بأكمله ، لأنهم في الحقيقة يضربون على الوتر الخطأ ، حين يعزفون على وتر الوعي أو وتر العقيدة ، أو حشد الجماهير
وعلى رأسهم .. المضحكون القُدامى المُسمون بالشيوعيين ، أو المضحكون الجدد المُسمون باالإخوان المُسلمين ، أو حتى مدرسة الرومانسية العائدة وأقصد بها حركة كفاية
قد تتفق معي .. قد تختلف .. قد نتحاور .. وقد لا تهتم ، ولكن في كل الأحوال ، أرجو أن تعود إلى أعلى الصفحة وتتأمل الصورة من جديد
..........