Friday 30 March 2007

عن الرجل و الحمار


تعالوا نحلل مع بعضنا هذه الصورة ... رجل عارِ كما ولدته أمه فى وضح النهار , يحاول أن يحمم حماره فى ماء النيل , على جانب أحد الطرق بالمدينة . إلى هنا .. لا شئ يزعجنى ... هل إنزعجت أنت ؟ .. ربما كُنتَ من المهتمين بشؤن البيئة و يزعجك تلوث ماء النيل , فيمكنك أن تتابع أحد برامج القناة الثالثة فهم منزعجون أيضا
أو ربما يؤذيك منظر الرجل العارى , فسأعرف حينها أنك لم تر من قبل "غطاس البلدية" و هو يمارس عمله , خارجا من أحد بالوعات القاهرة , بلبوصاً أيضاً
أشرح لكم لماذا لم أنزعج :-
لو تفحصت تلك الصورة - تأملها - لوجدتها تعبر ببلاغة غير مسبوقة , عن حالة فريدة من التوازن والتوازى والإتساق و الجنون
الرجل عارى فى الطريق يحمم حماره فى ماء النيل , و لكن الحياة تسير بمنتهى الطبيعية على جانب الطريق , فلا أحد يلتفت أو يهتم
اللهم عين مبدعة لمصوّر , وجدت فى الأمر غرابة تستحق التسجيل
أنت و أنا أيضا تعودنا أن نستوعب كل المتناقضات تسير متجاورة فى كل مكان وفى كل لحظة
الجمال يسير بحذا القُبح , العشوائية بجانب الرقي , سيارة ثمنها أكثر من مليون جنيه تقف فى إشارة مرور واحدة بجانب عربة كارو يجرها حمار مسكين , رجل يركب الدراجة وسط الزحام و موسيقى السيرك فى الخلفية , حاملا مشنّة الخبز فوق رأسه , يسندها بيد , و يدخن سيجارة باليد الأخرى .. ويسير .. منتقبة و شاب ملتح بجلباب قصير .. و فتاة ترتدى ستوماك و شاب ضارب الجِل و البنطلون اللو ويست ,
الكل يسير ...الكل يتجاور...الكل لا يلتفت للكل ولا يصطدم و لكن يسير
أنت و أنا إعتدنا ذلك الجنون ... و لهذا أنا لم أنزعج
****************************
على مدار عدة أشهر , تابعتُ بصبر و متعة و شغف , المئات من المدونات و المدونين , ولكم أذهلنى زخم الأفكار و الوعى و الموهبة لدى معظم من صادفتهم , حتى من أختلف معهم فكرياً . ولكن الشيئ الذى لاحظتُه , أن الكل تجمعه حالة عامة من الألم و القرف و فقدان الأمل
طيّب ... أريد الآن أحد المتطوعين منكم .. ربما فتاة رقيقة مُفعمة بالحماس و الإحباط معاً . أو شابُ واعدُ مليئ بالأحلام و اليأس ... أريدكم أن تقتربوا من ذلك الرجل العارى فى الصورة - و أنا مش مسئول طبعاً عن اللى هيحصل - وتلقون عليه بعض من هذه الأسئلة
هل أنت موافق على التعديلات الدستورية ؟
هل ترفض التوريث ؟
هل تشعر بالفساد الذى نعيش فيه ؟
ما هو تقييمك لفترة حكم الرئيس مبارك ؟
هل نعيش ديمقراطية مزيفة من وجهة نظرك ؟
هل تنتمى إلى أحد الأحزاب السياسية الموجودة بمصر الآن ؟
هل يجب فصل العقيدة / الدين عن الهوية ؟
من هي القوة السياسية المؤثرة في الشارع الآن ؟
هل سيصبح جمال مبارك وريثاً للحكم بعد أبيه ؟
هل فلسطين عربية أم إسلامية ؟
هل توافق على السلام مع إسرائيل ؟
هل سمعت عن كريم عامر ؟
أتخيل .. أنه مهما كانت النتائج الهزلية التي ستحصلون عليها ، فلا تستهينوا بها ، ولا تنسوا أنه مجرد رجلُ عاري في وضح النهار ، يحمم حماره في مياة النهر على جانب أحد الطرق بالمدينة
*********************
لم أستطع أن أحدد على وجه اليقين ، في أي حقبة تاريخية ، وتحت أية ظروف ، تحولت غالبية الشعب المصري إلى إعتناق ذلك النوع من الجهل الإختياري .. نظلم ثورة يوليو لو حمّلناها وحدها مسئولية ذلك ، فتلك التحولات قد تجذّرت لأبعد من ذلك بمئات السنين
الجهل .. يعني عدم العلم بالشيئ ، الجهل الإختياري .. يعني عدم الإكتراث بالعلم بالشيئ
وَصَلتُ .. إلى مرّبط الفرس ، وإلى عدة نتائج
*
نعم النظام الحاكم هو نظام الأغلبية ، وهو الأكثر شعبية وإتساقاً مع نفسه ، لأنه يعرف من يحكُم ومن يخاطِب ، وكيف يحكُم وكيف يخاطِب
*
نعم النظام الحاكم مُستمر ، وسوف يستمر .. لأنه يمتلك لُغة تفاهم ، يتعامل بها مع رجل الصورة العاري ، لُغة لا نفهمها نحن أصحاب الوعي والمعرفة
*
نعم نتيجة الإستفتاء على التعديلات الدستورية ، ونتيجة أي إستفتاء سابق أو قادم ، هي نتيجة سليمة لا تشوبها شائبة ، فهي تُعبر عن النسبة الحقيقية للأغلبية التي قامت بفعل " الغياب " وليس فعل المقاطعة
*
لا توجد قوى سياسية أو شعبية أو إجتماعية ، من شأنها أن تهزم ذلك الجنون المتوازن والمتماسك ، والذي يسع شعباً بأكمله ، لأنهم في الحقيقة يضربون على الوتر الخطأ ، حين يعزفون على وتر الوعي أو وتر العقيدة ، أو حشد الجماهير
وعلى رأسهم .. المضحكون القُدامى المُسمون بالشيوعيين ، أو المضحكون الجدد المُسمون باالإخوان المُسلمين ، أو حتى مدرسة الرومانسية العائدة وأقصد بها حركة كفاية
قد تتفق معي .. قد تختلف .. قد نتحاور .. وقد لا تهتم ، ولكن في كل الأحوال ، أرجو أن تعود إلى أعلى الصفحة وتتأمل الصورة من جديد
..........



Thursday 15 March 2007

أجازة / قصة قصيرة



اليوم هو يوم الجمعة , عطلته الرسمية . حتى العاشرة صباحا .. جسده النحيف مازال منكمشا فى زاوية فراشه , وشخيره العالى يخترق صمت الغرفة .إخترقت زوجته ذلك الصمت المزعج , وبحركة عنيفة من يدها أخذت توقظه .مفزوعا قام …رمقها بنظرة لو لم تترجمها هى بأن تترك الغرفة فى الحال , لأطاحت يده برأسها .عاد إلى رقدته , بعينين حمراويين محملقتين , أشعل سيجارته , أدرك أن رأسه قد بدأ فى العمل , وها هو يتلو عليه مونولوج الصباح :- ” خمس و أربعين عاما تنام و تقوم وتذهب وتأتى وتعمل و تنجب أطفالا , خمس و أربعين عاما لا تقول إلا حاضر , طيب , نعم .. فقد أذاقوك يوما مرارة الــــلا , و ها أنت ترفل فى نعمة الــــنعم .خمس و أربعين عاما تسأل نفسك : من أنا ؟ لماذا أنا هنا ؟ أنا أريد شيأ أخر .. حياه أخرى ..ماذا أريد ؟ ” نظر إلى سيجارته التى أحترقت إلى نصفها , فأطفأها , ثم طوى جفنيه …. و نام

Friday 9 March 2007

عندما نكبر نحن الرجال


ســأ م .. يقتلنى و يفقدنى إتزانى , لأنه يتسلل كنصل حاد لسيف صدئ من خلفى و من أمامى و من تحتى , فلا أعرف من أى إتجاه هو قادم كى أنصب له خطوط دفاع . لذلك أنا تعس , مهموم , شا رد , مراّ تى لا تعكس أيه ملامح , فأ حدق و لا أرى إلا الغور السحيق .. فأ حدق و أحدق , حتى لا أرى شيئا على الإطلاق . غير أنى بالأمس , داعبنى شيطان ما كر أكاد أرسم له بعض الملامح من خيالى , فأ راد أن نعبث سويا ببعض صناديق الذاكرة , أو دعنا نقول - إذ أن كلمة الذاكرة ليست دقيقه تماما - بعض الصناديق المغلقه فى مكان ما بالداخل . فى بادئ الأمر لم ألق بالا , و تصنعت الإنشغال و العبث ببعض الأشياء , لكن ذلك الشيطان للحق , كان لحوحا , ذكيا , كان يعرض على فى البدء بعض الصناديق القديمه و التى كنت قد نويت التخلص منها , فلا يستفز خيالى سوى بعض الصور لأشخاص عابرون , رحلوا من زمن .. حتى فاجأنى ذلك اللعين بذلك الصندوق الفضى اللامع , و أنعكس ضوءه الباهر على حدقتى المتعبه فأ نتبهت فى الحال … لا .. إلا هذا الصندوق أرجوك . يضحك بلئم و خلاعة . رويدا رويدا أضعف أمامه , ولكن لنقل أنه الفضول , أو أنها تلك الرغبه العارمه التى تتملكنا حين نفــض هدايا أعياد الميلاد . نشوة غامرة , عادة , نستقبل بها الشئ الغامض والطريق الغامض و الإحساس الجديد . أ أعبث فى ذلك الصندوق ؟ أ أغامر ؟ أذن هو صندوقك أنتى ! أنتى بالتحديد . لامع مثلك , فضى بارد .. بالداخل جسدك العارى ممد , أبيض كقلب اللوز , ناعم كملمس طفل . أتذكر شوارع ذلك الجسد الرحبة , وكيف أنى أمضيت أعواما أتجول مدهوشا بين كل هذا البياض , أتهلل فرحا حين أكتشف المزيد من الأركان و الأزقة فأدخلها غازيا فاتحا . و لكن ماذا تظنين ؟ هل تظنين أنى أعمى ؟ و لا ألاحظ أثار الأقدام ؟ عفوا .. لم أعد ذلك الرجل الخجول - كصديقة عذراء - كما داعبتينى فى أول لقاء .. أتعلمين .. أنتى بلهاء !! ذلك لأن من كان يحاصر مساحات بياضك بساعديه , لم يكن أنا .. لأنى فى ذلك الحين أكون قد تسللت من خلالك و دلفت إلى رحمك جنينا من جديد , أتكور و أتمدد و أعوى , وأنسج عالما أوليا شفافا , يحيا ويستمد كيانه من عالم أخر .. أزرق صباحا و مساء . ألم تسمعى صياحى بداخلك .. أنا بداخلك بذرة إله , تلدينى ربا كل مساء . وكل مساء , كنت أرى أثار الأقدام تسخر منى و تخرج لسانها لى , ولكنى أغفر ….فأ نا الإله كل مساء . لقد كنت راضيا بتلك الحيا ة حتى الليله , معشوقا يزاحمه فى المدينة البيضاء عشرات السكان ..أتعلمين .. من المحال أن نرى كل شئ مرة واحدة , أو أن تكتمل الصورة دون أن نعيش كافة التفاصيل لحظة بلحظة , فنرى ما كنا لا نراه أو ما حاولنا ألا نراه . فى سويعات الالليل الأخيرة , كنت كالمحموم , سيل لا نهائى من الصور يتدافع أمام عينى , ويملأ أذنى بصخبك , وأرى كل شئ . اليوم الأول للقائنا با لمرقص , هذا النبض المحموم السارى فى لمساتنا , تلامس أرجلنا تحت المائدة فى غفلة الأصدقاء , و تلك الرعشة الخاطفة التى أعقبتها ضحكة ماكرة منك . أقسم لك .. حتى تلك اللحظة , لم أحاول أن أكون جلفا كرجل , بل أنى كنت أريد أموت بكاءا على صدرك وأقول ما لم أقله من قبل . كلمه كلمه مما تحدثنا به تلك الأعوام , أسمعها الان . ولكن , تبرز المشكلة : أشعر بالســأ م الان , و هو كنصل حاد لسيف صدئ , ولكنى أعرف من أى طريق هو قادم . لن تحتفظى بى ذلك الطفل المندهش دوما أمام تلك التلافيف البيضاء , ولم أستمر ذلك البرئ الذى يرى الدنيا من خلالك … فقد أصبحت فى جلافة رجل , خشن , مفتول الساعد . و فى كل مرة , تتناثر ضلوعك حين أضمك إلى صدرى , تهللين : تلميذى !! ها أنا ذا قد ســأ مت اللعبة … رعشتنا القديمة أصبحت هزة , كتلك التى يشعر بها راكب القطار كل ثانية ..عادية . حتى إحساسى بأ نى ربا لك كل مساء , حتى هذا الإحساس .. زائف , إذ كيف أكون معبودا بالمساء و مخدوعا حين أنام . شئ أخر … إنى أرى الان أشياءا لم أرها من قبل … نعم .. تلك الحياة جميلة , بها كل الأشياء الرائعة المحتجبة منذ سنين . أرى الان بوضوح تام , كل شئ بلونه و بحجمه , أرى من أين يتسلل الســأ م , أنه من ذلك الجسد الممد بعريه الأبدى .. من تلك الأعين المحدقة و التى حتما تقذفنى بالجنون … رائحة البوار , و الأجل المسرع نحو ما لا أعرف , و ما ليس مؤكد لى
…. عفوا لا أستطيع

(كتبت فى عام 1989)